فصل: تفسير الآيات (149- 150):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (149- 150):

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
ولما انتفى أن يكون لهم حجة، وثبت أن الأمر إنما هو لله، ثبت أنه المختص بالحجة الواضحة، فقال مسبباً عن ذلك: {قل فلله} أي الإله الأعظم وحده {الحجة البالغة} أي التي بلغت أعلى درجات الحق قوة ومتانة وبياناً ووضوحاً ورصانة بسبب أنه شامل العلم كامل القدرة كما أقررتم بذلك حين قلتم {ولو شاء الله ما أشركنا} وإن كنتم قلتموه على سبيل الإلزام والعناد لا لأجل التدين والاعتقاد {فلو شاء} أي الله {لهداكم} أي أنتم ومخالفيكم {أجمعين} ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء هداية بعض وضلال آخرين، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه، فلزم على قولكم أن يكون الفريقان محقين، فيكون الشيء الواحد حقاً غير حق في حال واحد، وهذا لا يقوله عاقل، ويلزمكم على ذلك أيضاً أن توالوا أخصامكم ولا تعادوهم وإن فعلوا ما فعلوا، لأنه حق رضى الله لأنه بمشيئته وأنتم لا تقولون ذلك، فبطل قولكم فثبت أنه قد يشاء الباطل لأنه لا يسأل عما يفعل ويرسل الرسل إليكم لإزالته ليقيم بهم الحجة على من يريد عقابه على ما يتعارفه الناس بينهم، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع.
ولما صدق الحق، وانكسر جند الباطل واندق ببطلان جميع شبههم، ونطقت الدلائل وأفحم المجادل، فبان أنه لا شاهد لهم بحق لأنه لا حق لهم، كان كأنه قيل: قل لهم: ها أنا قد شهد لي بما قلته مَن لا ترد شهادته وزكاتي الذي لا يقبل إلا تزكيته بهذا الكتاب الذي كان عجزكم عن الإتيان بشيء من مثله شاهداً بأنه قوله، فهل لكم أنتم من شاهد يقبل! ولما لم يكن لهم شاهد غير متخرصيهم، فإن المبطل يظهر باطله عند المحاققة سنة من الله مستمرة، فيظهر للمشهود لهم بما يلوح من بهتهم أنهم ليسوا على شيء، أمره سبحانه أن يأمرهم بدعائهم ليظهر خزيهم وتشتهر فضيحتهم فقال: {قل هلم} أي احضروا، وهي كلمة دعوة يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع عند الحجازيين {شهداءكم}.
ولما كان كأنه قيل: أيّ شهداء؟ قال: {الذين يشهدون} أي يوقعون الشهادة على {أن الله} أي الذي لا حكم لغيره {حرم هذا} أي الذي ذكرتموه من قبل، وإضافة الشهداء إليهم ووصفهم ب {الذين} دليل على أنهم معروفون موسومون بنصرة مذهبهم بالباطل، ولو قال: شهداء- من غير إضافة لأفهم أن المطلوب من يشهد بالحق وليس كذلك، لأنه أقيم الدليل العقلي على أنه لا حجة لهم وأن الحجة لله على خلاف ما ادعوه، فبطل قطعاً أن يكون أحد يشهد على ذلك بحق.
ولما كان كأنه قيل: فإنهم إذا أحضروا لا يقدرون- إن كان لهم عقل أو فيهم حياء- على النطق إذا سمعوا هذا الحق، بني عليه قوله: {فإن} اجترؤوا بوقاحة {شهدوا} أي كذباً وزوراً بذلك الذي أبطلناه بالأدلة القطعية {فلا تشهد معهم} أي فاتركهم ولا تسلم لهم، فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى {ولا تتبع أهواء} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف دلالة على أن القائد إلى التكذيب وكل ردى إنما هو الهوى، وأن من خالف ظاهر الآيات إنما هو صاحب هوى، فقال: {الذين كذبوا} أي أوقعوا التكذيب {بآياتنا} أي على ما لها من الظهور بما لها من العظمة بإضافتها إلينا.
ولما وصفهم بالتكذيب، أتبعه الوصف بعدم الإيمان، ودل بالنسق بالواو على العراقة في كل من الوصفين فقال: {والذين لا يؤمنون بالآخرة} أي التي هي دار الجزاء، فإنهم لو جوزوها ما اجترؤوا على الفجور {وهم بربهم} أي الذين لا نعمة عليهم ولا خير عندهم إلا وهو منه وحده {يعدلون} أي يجعلون غيره عديلاً له، وسيعلمون حين يقولون لشركائهم وهم في جهنم يختصمون {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} [الشعراء: 97، 98].

.تفسير الآية رقم (151):

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}
ولما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك، وبين فساده بالدلائل النيرة، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذي له الخلق والأمر ومن غيره، فليس التحريم لأحد غيره فقال: {قل تعالوا} أي أقبلوا إليّ صاعدين من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال؛ قال صاحب الكشاف: هو من الخاص الذي صار عاماً، يعني حتى صار يقوله الأسفل للأعلى {أتل} أي أقرأ، من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً. ولما كان القصد عموم كل أحد بالتلاوة وإنما خص المخاطبين بالذكر لاعتقادهم خلاف ذلك، وكان المحرم أهم، قدمه فقال: {ما حرم ربكم} أي المحسن إليكم بالتحليل والتحريم {عليكم} فسخطه منكم، وما وصاكم به إقداماً وإحطاماً فرضيه لكم من قبيلي الأصول والفروع؛ ثم فسر فعل التلاوة ناهياً عن الشرك، وما بعده من مضمون الأمر إنما عدي عنها، فقال: {ألا تشركوا به شيئاً} الآيات مرتباً جملها أحسن ترتيب، فبدأ بالتوحيد في صريح البراءة من الشرك إشارة إلى أن التخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، فإن التقية بالحمية قبل الدواء، وقرن به البر لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق، ثم أولاه القتل الذي هو أكبر الكبائر بعد الشرك، وبدأه بقتل الولد لأنه أفحشه وأفحش من مطلقه فعله خوف القلة، فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب في الوجود، فقال ناهياً عن الإساءة في صورة الأمر بالإحسان على أوكد وجه لما للنفوس من التهاون في حقهما، وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم لأن أضدادها منهي عنها ليكون مأموراً بها منهياً عن أضدادها، فيكون ذلك أوكد لها وأضخم: {وبالوالدين} أي افعلوا بهما {إحساناً}.
ولما أوصى بالسبب في الوجود، نهى عن التسبب في الإعدام وبدأ بأشده فقال: {ولا تقتلوا أولادكم} ولما كان النهي عاماً، وكان ربما وجب على الولد قتل، خص لبيان الجهة فقال: {من إملاق} أي من أجل فقر حاصل بكم، ثم علل ذلك، ولأجل أن الظاهر هو حصول الفقر قدم الآباء فقال: {نحن نرزقكم} بالخطاب، أي أيها الفقراء، ثم عطف عليه الأبناء فقال: {وإياهم} وظاهر قوله في الإسراء {خشية إملاق} [الإسراء: 31] أن الآباء موسرون ولكنهم يخشون من إطعام الأبناء الفقر، فبدأ بالأولاد فقال: {نحن نرزقهم} ثم عطف الآباء فقال {وإياكم} نبه عليه أبو حيان.
ولما كان قتلهم أفحش الفواحش بعد الشرك، أتبعه النهي عن مطلق الفواحش، وهي ما غلظت قباحته، وعظم أمرها بالنهي عن القربان فضلاً عن الغشيان فقال: {ولا تقربوا الفواحش} ثم أبدل منها تأكيداً للتعميم قوله: {ما ظهر منها} أي الفواحش {وما بطن} ثم صرح منها بمطلق القتل تعظيماً له بالتخصيص بعد التعميم فقال: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} أي الملك الأعلى عليكم قتلها {إلا بالحق} أي الكامل، ولا يكون كاملاً إلا وهو كالشمس وضوحاً لا شبهة فيه، فصار قتل الولد منهياً عنه ثلاث مرات؛ ثم أكد المذكور بقوله: {ذلكم} أي الأمر العظيم في هذه المذكورات.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس، ختمها بما لا يقوله إلا المحب الشفوق ليتقبلها القلب فقال: {وصّاكم به} أمراً ونهياً؛ ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها وجلالة وقعها في النفوس لا تحتاج إلى مزيد فكر قال: {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا على رجاء من المشي على منهاج العقلاء، فعلم من ذكر الوصية أن هذه المذكورات هي الموصى بها والمحرمات أضدادها، فصار شأنها مؤكداً من وجهين: التصريح بالتوصية بها، والنهي عن أضدادها.

.تفسير الآيات (152- 153):

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
ولما كان المال عديل الروح من حيث إنه لا قوام لها إلا به، ابتدأ الآية التي تليها بالأموال، ولما كان أعظمها خطراً وحرمة مال اليتيم لضعفه وقلة ناصره، ابتدأ به فنهي عن قربه فضلاً عن أكله أو شربه فقال: {ولا تقربوا مال اليتيم} أي بنوع من أنواع القربان عمل فيه أو غيره {إلا بالتي هي أحسن} من الخصال من السعي في تنميته وتثميره وليستمر ذلك {حتى يبلغ أشده} وهو سن يبلغ به أوان حصول عقله عادة وعقل يظهر به رشده؛ ثم ثنى بالمقادير على وجه يعم فقال: {وأوفوا} أي أتموا {الكيل والميزان} لأنهما الحكم في أموال الأيتام وغيرهم؛ ولما كان الشيء ربما أطلق على ما قاربه نحو {قد قامت الصلاة} أي قرب قيامها، وهذا وقت كذا- وإذا قرب جداً، أزيل هذا الاحتمال بقوله: {بالقسط} أي إيفاء كائناً به من غير إفراط ولا تفريط.
ولما كانت المقادير لا تكاد تتساوى لاسيما الميزان فإنه أبعدها من ذلك، وأقربها الذرع وهو داخل في الكيل، فإنه يقال: كال الشيء بالشيء: قاسه، أشار إلى أنه ليس على المكلف المبني أمره على العجز للضعف إلا الجهد فقال: {لا نكلف} أي على ما لنا من العظمة {نفساً إلا وسعها} وما وراء الوسع معفو عنه؛ ثم ثلث بالعدل في القول لأنه الحكم على الأموال وغيرها، وقدم عليه الفعل لأنه دال عليه، فصار الفعل موصى به مرتين فقال: {وإذا قلتم} أي في شهادة أو في حكم أو توفيق بين اثنين أو غير ذلك {فاعدلوا} أي توفيقاً بين القول والفعل.
ولما كانت النفوس مجبولة على الشفقة على القريب قال: {ولو كان} أي المقول في حقه له أو عليه بشهادة أو غيرها {ذا قربى} ولا تحابوه طمعاً في مناصرته أو خوفاً من مضارته؛ ثم ختم بالعهد لجمعه الكل في القول والفعل فقال: {وبعهد الله} أي الملك الأعظم خاصة {أوفوا} وهذا يشمل كل ما على الإنسان وله، فإن الله لم يهمل شيئاً بغير تقدم فيه؛ ثم أكد تعظيم ذلك بقوله: {ذلكم} أي الأمر المعتنى به {وصّاكم به} أي ربكم المحسن إليكم.
ولما كانت هذه الأفعال والأقوال شديداً على النفس العدلُ فيها لكونها شهوات، تقدم بالترغيب فيها والترهيب منها بأن كل من يفعل شيئاً منها مع غيره يوشك أن يفعل معه مثله، فلذلك حض على التذكر في الوصية بها ولأنها خفية تحتاج إلى مزيد تدبر فقال: {لعلكم تذكرون} أي لتكونوا بحيث يحصل لكم التذكر- ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام- فيما جبلت عليه نفوسكم من محبة مثل ذلك لكم، فتحكموا لغيركم بما تحكمون به لأنفسكم.
ولما قرر هذه الشرائع، نبه على تعظيمها بالخصوص على وجه يعم جميع ما ذكر في السورة بل وفي غيرها، فقال عاطفاً على ما تقديره- عطفاً على المنهيات وأضداد المأمورات على وجه يشمل سائر الشريعة-: ولا تزيغوا عن سبيلي: {وأن} أي ولأن- على قراءة الجماعة بالفتح، أي اتبعوه لذلك، وعلى قراءة ابن عامر ويعقوب بالكسر هو ابتداء {هذا} أي الذي شرعته لكم {صراطي} حال كونه {مستقيماً فاتبعوه} أي بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير.
ولما كان الأمر باتباعه متضمناً للنهي عن غيره، صرح به تأكيداً لأمره فقال: {ولا تتبعوا السبل} أي المنشعبة عن الأهوية المفرقة بين العباد، ولذا قال مسبباً {فتفرق بكم} أي تلك السبل الباطلة {عن سبيله} ولما مدحه آمراً به ناهياً عن غيره مبيناً للعلة في ذلك، أكد مدحه فقال: {ذلكم} أي الأمر العظيم من اتباعه {وصّاكم به}.
ولما كان قد حذر من الزلل عنه، وكان من المعلوم أن من ضل عن الطريق الأقوم وقع في المهالك، وكان كل من يتخيل أنه يقع في مهلك يخاف، قال: {لعلكم تتقون} أي اتبعوه واتركوا غيره ليكون حالكم حال من يرجى له أن يخاف من أن يزل فيضل فيهلك، وهذا كما مدحه سبحانه سابقاً في قوله: {وهذا صراط ربك مستقيماً} [الأنعام: 126]، {قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون} [الأنعام: 126] وفصل ما هنا من الأحكام في ثلاث آيات، وختم كل آية لذلك بالوصية ليكون ذلك آكد في القول فيكون أدعى للقبول، وختم كل واحدة منها بما ختم لأنه إذا كان العقل دعا إلى التذكير فحمل على التقوى.

.تفسير الآيات (154- 157):

{ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}
ولما كانت هذه الآيات الثلاث وافية بالآيات العشر التي كتبها الله لموسى عليه السلام على لوحي الشهادة في أول ما أوحي إليه في طور سيناء المشار إليها بقوله: {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} [الأنعام: 91] وبنى عليها التوراة وأمره أن يودعها في تابوت العهد لتكون شهادة عليهم وعلى أعقابهم كما هو مذكور في وسط السفر الثاني من التوراة وقد مضى بيانه في البقرة ويأتي في آخر هذه المقولة وزائدة عليها من الأحكام والمحاسن ما شاء الله؛ حسن أن تذكر بعدها التوراة، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى كل من الترتيب والتعظيم: {ثم آتينا} أي بما لنا من العظمة التي تقتضي تعظيم ما كان من عندنا {موسى الكتاب} أي المشار إليه بقوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} [الأنعام: 91]- وهي- والله أعلم- معطوفة على قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146] لأنه تعالى بعد أن أعطى موسى العشر الآيات واعده إلى الجبل مواعدة ثانية، فشرع له بعض الأحكام وأمره بنصب قبة الزمان التي يوحي إليه فيها ويصلون إليها، وببعض ما يتخذ من آلاتها كما مضى في البقرة، ثم ذكر بعد ذلك بيسير تحريم الشحوم عليهم، فقال في أوائل السفر الثالث وهو سفر الكهنة، وفيه تلخيص أمر القرابين: ودعا الرب موسى وكلمه في قبة الأمد وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: كل إنسان منكم إذا قرب للرب قرباناً من البهائم فلتكن قرابينكم من البقر ومن الغنم- إلى أن قال: ويقرب قرباناً للرب الحجاب المبسوط على الأحشاء وكل الثوب الذي على الأكشاح والكليتين والشحم الذي عليهما وعلى الجنب- إلى أن قال: وقال: الشحوم للرب عهد الأبد، ولا تأكلوا دماً ولا شحماً، ثم قال: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: لا تأكلوا شحم البقر ولا شحم الغنم: الضأن والماعز جميعاً، لأن كل من أكل شحم بهيمة ويقرب قرباناً للرب، تهلك تلك النفس من شعبها، ولا تأكلوا دماً حيث ما سكنتم، لا دم البهائم ولا دم الطير، وأيّة نفس أكلت دماً تهلك تلك النفس من شعبها، وقال في السفر الخامس: فأما الدم فلا تأكلوا ولكن ادفقوه على الأرض مثل الماء، ثم قال بعده بقليل: وكلوا في قراكم من كل شهوات أنفسكم، ولكن إياكم أن تأكلوا دماً، لأن دم البهيمة هو في نفسها، فلا تأكلوا النفس مع اللحم ليحسن إليكم وإلى أولادكم من بعدكم إذا عملتم الحسنة أمام الله ربكم؛ رجع إلى السفر الثالث ثم قال: ودخل موسى وهارون إلى قبة الزمان وخرجا ودعوا الشعب، فظهر مجد الرب أمام جميع الشعب، ونزلت نار من قبل الرب فأحرقت الشحم والذبيحة الكاملة له على المذبح، وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله، وخر الشعب كله على وجهه؛ ثم ذكر عقب ذلك بيسير محرمات الحيوان، وكذا ذكر في السفر الخامس وقد جمعت بينهما ومعظم السياق للخامس: قال: لا تأكلوا شيئاً نجساً، هذا! كلوا من جميع البهائم: الثور: والحمل والنعجة والمعز والأيل والظبي والجوذر والرخ والرئم والوعل والثيثل كل بهيمة ذات ظلف مقسوم ظلفها تجتر كلوها، وحرموا من التي لا تجتر، ومن التي لها ظلوف مقسومة ولا تجتر الجمل والأرنب والوبر التي تجتر وليس لها أظلاف مقسومة هي نجسة لكم، وفي الثالث: وحرموا من البهائم التي ليست لها أظلاف التي تجتر: الجمل الذي يجتر وليس له أظلاف هو نجس محرم عليكم، والأرنب الذي يجتر وليس له أظلاف منجس محرم عليكم؛ رجع: والخنزير الذي له أظلاف ولا يجتر هو نجس، لا تأكلوا من لحوم هذه ولا تقربوا إلى أجسادها؛ وقال في الثالث: ولا تمسوا لحومها لأنها نجسة محرمة عليكم؛ وقال في الخامس من ترجمة الاثنين والسبعين: وإياكم أن تأكلوا كل نجس، ويكون الذي تأكلونه من الدواب العجل من البقر والخروف من الغنم والجدي من المعز أو الأيل والغزال والعين والوعل وعنز الجبل واليحمور وناقة القمر والزرافة، وكل دابة مشقوقة الظلف وهي تنبت أظافير في كل ظلفها واجتر من الدواب.
فإياه فكلوا، والذي لا تأكلون منه من الذي يجتر ومن المشقوق الظلف الذي ينبت له أظافير الجمل والأرنب واليربوع، فإن ذلك يجتر ولكنه غير مشقوق الظلف، وهو لا يحل لكم، والخنزير أيضاً فإن ظلفه مشقوق وينبت في ظلفه أظافير غير أنه لا يجتر، وما لا يجتر فإنه لا يحل لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تقربوا أجسادها؛ وقال في الثالث منها: وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: كلما بني إسرائيل وقولا لهما: إن الذي تأكلونه من المواشي من جميع الأنعام التي على الأرض كل بهيمة قد شق ظلفها وهي تخرج أظفاراً في كلا ظلفيها وتجتر، فذلك الذي تأكلونه من الأنعام، والذي لا يحل مما يجتر ولم يشق ظلفه الجمل الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم، واليربوع- وفي نسخة: السنجاب- الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم لم يطهر لكم، والأرنب الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه لا يطهر لكم والخنزير فإنه مشقوق الظلف ويخرج أظفاراً في ظلفه وهو لا يجتر فإنه لا يطهر لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تمسوا ما مات منها، فإن ذلك لا يطهر لكم؛ رجع إلى نسختي، ثم ذكر في الطير ودواب البر قريباً مما في شرعنا إلى أن قال: ولا تأكلوا أشياء نجسة بل ادفعوها إلى السكان الذين في قراكم يأكلونها أو يبيعونها من الغرباء، لأنك شعب طاهر لله ربك لا تطبخوا جدياً بلبن أمه؛ وقال في ترجمة الاثنين والسبعين: ولا تطبخ الخروف بلبن أمه؛ وقال في السفر الخامس: وكلوا من الطير ما كان زكياً وحرموا هذه التي أصف لكم، لا تأكلوا منها شيئاً: النسر والحداء- وذكر نحواً مما عندنا، وقال في نسختي في الثالث: فمن مس شيئاً من هذه- أي المحرمات- يكون نجساً إلى المساء، ومن حمل منها شيئاً فليغسل ثيابه ويكون نجساً إلى الليل- انتهى.
الظبي- بالمعجمة المشاركة- معروف، والجوذر- بفتح الجيم والذال المعجمة والراء: البقرة الوحشية، والرئم- بكسر المهملة: الظبي الخالص البياض، والثيثل- بمثلثتين مفتوحتين بينهما ياء تحتانية ساكنة: بقر الوحش، والأيل- بفتح الهمزة وكسر التحتانية المشددة، الوعل- بفتح الواو وكسر المهملة- وهو تيس الجبل، والحمل- بفتح المهملة: الرضيع من أولاد الضأن، وقوله: لا تطبخوا جدياً بلبن أمه، الظاهر أن معناه النهي عن أكله ما دام يرضع، وما بعد الذي في الثالث هو معظم التوراة، والذي في الخامس إنما هو إعادة لما في الثالث، فإن الخامس تلخيص لجميع ما تقدمه من القصص والأحكام مع زيادات، فصدق أن إيتاء الكتاب أتى معظمه بعد تحريم ما حرم عليهم، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره: ذلكم وصاكم به كما وصى بني إسرائيل في الفصل الذي نسبته من التوراة كنسبة أم القرآن من القرآن، وذلك هي العشر الآيات التي هي أول ما كتبه الله لموسى عليه السلام، وهي أول التوراة في الحقيقة لأنها أول الأحكام، وما قبلها فهو قصص وحاصل هذه العشر آيات: الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر من العبودية والرق، لا يكونن لك إله غيري، لا تقسم باسمي كذباً، احفظ يوم السبت، أكرم والديك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تمدن عينيك إلى ما في أيدي الناس، فالمعنى: ذلك وصيناكم به كما وصينا بني إسرائيل به في العشر الآيات وبعض ما آتينا موسى من التوراة، ويجوز أن يكون التقدير: لكون هذه الآيات محكمة في كل الشرائع لم تنسخ في أمة من الأمم ولا تنسخ، وصاكم به يا بني آدم في الزمن الأقدم، ولم يزدد الأمر بها في التوصية إلا شدة {ثم آتينا} أي بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي جميعه وهي فيه، حال كونه {تماماً} لم ينقص عما يصلحهم شيئاً {على} الوجه {الذي أحسن} أي أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بيّن من الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك بعامه، فإنه نقل أن الله تعالى لم يهلك قوماً هلاكاً عاماً بعد إنزال التوراة {وتفصيلاً لكل شيء} من جملة ذلك الفصل المحتوي على الكلمات الحاوية لكل شيء يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، كما أن القرآن تفصيل لكل شيء من الجوامع السبع التي حوتها أم القرآن الحاوية لمصالح الدارين، وفي هذين الاحتمالين المقتضيين لكون {ثم} على حقيقتها من الترتيب والمهلة علم من أعلام النبوة، وهو الاطلاع على أن العشر الآيات وتحريم ما حرم عليهم بالبغي في أوائل ما أوحي إلى موسى عليه السلام بعد إغراق فبعون وأن معظم التوراة أنزل بعد ذلك، وهذا لا يعرفه إلا أحبارهم {وهدى} أي بياناً {ورحمة} أي إكراماً لمن يقبله ويعمل به {لعلهم} أي بني إسرائيل {بلقاء ربهم} أي الذي أخرجهم من مصر من العبودية والرق بقوته العظيمة وكلماته التامة {يؤمنون} أي ليكون حالهم بعد إنزال الكتاب- لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره- حال من يرجى أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه لقدرته على البعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء لأنه لا تستقل به العقول، وإنما يثبت بالسمع مع تجويز العقل له، فيعلموا أنه لا يشبهه شيء كما أن كلامه لا يشبهه كلام فلا يبغوا باتخاذ عجل غاية أمره خوار لا يفهم ومجمجة لا تفيد.
فلما بين أن إنزال الكتب رحمة منه لأن غايتها الدلالة على منزلها فتمتثل أوامره وتتقى مناهيه وزواجره، بين أنه لم يخص تلك الأمم بذلك، بل أنزل على هذه الأمة كتاباً ولم يرض لها كونه مثل تلك الكتب، بل جعله أعظمها بركة وأبينها دلالة، فقال: {وهذا} أي القرآن {كتاب} أي عظيم {أنزلناه} أي بعظمتنا إليكم بلسانكم حجة عليكم {مبارك} أي ثابت كل ما فيه من وعد ووعيد وخير وغيره ثباتاً لا تمكن إزالته مع اليمن والخير.
ولما كان هذا معناه: وكان داعياً إليه محبباً فيه، سبب عنه قوله: {فاتبعوه} أي ليكون جميع أموركم ثابتة ميمونة، ولما أمر باتباعه وكان الإنسان ربما تبعه في الظاهر، أمر بإيقاع التقوى المصححة للباطن إيقاعاً عاماً، ولذلك حذف الضمير فقال: {واتقوا} أي ومع ذلك فأوقعوا التقوى، وهي إيجاد الوقاية من كل محذور، فإن الخطر الشديد والسلامة على غير القياس، فلا تزايلوا الخوف من منزله بجهدكم، فإن ذلك أجدر أن يحملكم على تمام الاتباع وإخلاصه {لعلكم ترحمون} أي ليكون حالكم حال من يرجى له الإكرام بالعطايا الجسام، والآيتان ناظرتان إلى قوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} إلى قوله-: {وهم على صلاتهم يحافظون} [الأنعام: 92]، ثم بين المراد من إنزاله وهو إقامة الحجة البالغة فقال: {أن} أي لأن لا {تقولوا} أو كراهة أن تقولوا أيتها الأمة الأمية {إنما أنزل الكتاب} أي الرباني المشهور {على طائفتين} وقرب الزمن وبعّضه بإدخال الجار فقال: {من قبلنا} أي اليهود والنصارى {وإن} أي وأنا- أو وأن الشأن- {كنا عن دراستهم} أي قراءتهم لكتابهم قراءة مرددة.
ولما كانت هي المخففة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال: {لغافلين} أي لا نعرف حقيقتها ولا ثبتت عندنا حقيتها ولا هي بلساننا {أو تقولوا} أي أيها العرب: لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها، ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلا على المكتوب إليه فلم نتبعه، و{لو أنا} أهلنا لما أهلوا له حتى {أنزل علينا الكتاب} أي جنسه أو الكتاب الذي أنزل إليهم من عند ربنا {لكنا أهدى منهم} أي لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق، ولذلك سبب عن هاتين العلتين قوله: {فقد جاءكم} وذكر الفعل مدحاً لهذا القرآن وتفضيلاً وتشريفاً له على كل ما تقدمه وتنبيهاً على أن بيان هذه السورة في النهاية لأنها سورة أصول الدين {بينة} أي حجة ظاهرة بلسانكم {من ربكم} أي المحسن إليكم على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك {وهدى} أي بيان لمن تدبره عظيم {ورحمة} أي إكرام لمن قبله، فكذبتم بها.
ولما قامت عليهم الحجة، حسن وقوع تحذير التقرير بقوله: {فمن} أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يقال بياناً لأنكم أظلم الناس: من {أظلم ممن كذب} أي أوقع التكذيب {بآيات الله} أي الذي لا أعظم منه فلا أعظم من آياته، لأن الأثر على قدر المؤثر {وصدف} أي أعرض إعراضاً صار به كأنه في صفد أي سد عن سهولة الانقياد للدليل {عنها} بعد ما عرف صحتها.
ولما كان الجواب قطعاً: لا أحد أظلم منه، فكان الحال مقتضياً لتوقع ما يجازى به، قال: {سنجزي} أي بوعد صادق لا خلف فيه، وأظهر ما أصله الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {الذين يصدفون} أي يجددون الإعراض ولا يتوبون {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة {سوء العذاب} أي الذي يسوء نفسه {بما كانوا يصدفون} أي بسبب إعراضهم الذي كان عادة لهم.